من سماحة الإسلام
بقلم: د. عبدالله بن إبراهيم اللحيدان
كان بناء دين الإسلام منذ ظهوره على اليسر، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر ولن يشاد الدينَ أحدٌ إلا غلبه". وفي هذا الدين من السماحة والسهولة ومن اليسر والرحمة ما يتوافق مع عالميته وخلوده وهو ما يجعله صالحا لكل زمان ومكان لسائر الأمم والشعوب، فالسماحة تتواءم مع عالمية الإسلام، وخطاب الدعوة في القرآن والسنة يؤكد ذلك، فقد جاءت النصوص تدعو الناس أن ينضموا تحت لواء واحد وأن يتنافسوا على معيار الإسلام الخالد وهو التقوى، قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم). ولقد جاء الإسلام في فترة جاهلية أهدرت كرامة الإنسان وحريته فأعاد الإسلام بناء الإنسان من جديد ونظم علاقته بربه وعلاقته بالآخرين، ووضع الضوابط الكاملة لجميع ميادين الحياة في علاقة المرء بربه وفي علاقته ببني جنسه وفي علاقته بسائر المخلوقات... وجاءت جميع هذه الضوابط متوافقة مع فطر الإنسان وعقله، وفيها من التيسير والسماحة والمرونة. وهذه من خصائص الإسلام العظيم التي ترتبط بأصل هذا الدين ولا يعيق تطبيقها عائق ففي أوج قوة المسلمين كانت السماحة شعارا لهذا الدين وصور ذلك لا تحصر.
ثم إن نصوص القرآن الكريم تقرر أن الخلاف باق بقاء الإنسان على هذه الأرض، وأن التعدد والتنوع في أخلاق وسمات البشر مما مضى به القدر الإلهي فسنة الله تعالى في خلقه أن تنوعت أجناسهم وألسنتهم وألوانهم كما تنوعت دياناتهم، ولذلك فإن عيش المسلم ينبغي أن يكون في ضوء هذه الحقيقة التي تزخر بها آيات عديدة كقوله تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا) وقوله: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين).
إن دين الإسلام دين سماحة ويسر في عقيدته وعباداته ومعاملاته وآدابه وسائر تشريعاته فعقيدته لا تقوم على فلسفة معقدة أو تسليم مطلق أو مخالفة للفطرة والعقل، فأطلق القرآن الكريم الحرية للمرء للتدبر والتفكر في نفسه، وفي ملكوت السماوات والأرض، ودعا الناس إلى الإيمان بالله وحده.
وفي القرآن الكريم ما لا يحصى من الآيات الداعية إلى الإيمان، يستوي في فهمها العامة والخاصة حيث دعت كل أحد إلى التجرد من الهوى والتقليد وخاطبت عقولهم وفطرهم، وهي مع ذلك لا تكرههم على الإيمان، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها).
وفي القرآن العظيم من الآيات الدالة على أن أصحاب العقول السليمةوالألباب المستقيمة إذا حكّموا عقولهم واستجابوا لفطرتهم وتخلصوا من ربقة التقليد فإنهم ينقادون إلى هذا الدين عن طواعيةورغبة.
ومن يقرأ القرآن الكريم يعلم حقيقة السماحة في الإسلام في أعظم قضية جاء بها الإسلام وهي قضية التوحيد فيعرض لها القرآن بأسلوب سمح سهل يدركه كل عاقل ويستدل على حقائق الإيمان بما يحسه الناس ويدركونه بأيسر طريق.
وعبر تاريخ دولة الإسلام كان يعيش في داخلها غير المسلمين في مراحل قوتها وضعفها، فلم يُجبَروا على ترك معتقداتهم أو يُكرَهوا على الدخول في الإسلام، والقاعدة العظمى في الإسلام أن (لا إكراه في الدين) ولذا فقد عاش الذميون وغيرهم في كنف دولة الإسلام دون أن يتعرض أحد لعقائدهم ودياناتهم. إن الإسلام لم يقم على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم أو المساس الجائر بأموالهم وأعراضهم ودمائهم. وتاريخ الإسلام في هذا المجال أنصع تاريخ على وجه الأرض. ومن المقرر عند الفقهاء أنه لو أُكْرِهَ أحد على الإسلام فإنه لا يصح إسلامه. ولذلك فإنه إذا عاد إلى دينه بعد زوال الإكراه لم يُحكم بردته، ولا يجوز قتله ولا إكراهه على الإسلام.
وإذا ما انتقل المرء إلى العبادات فإنه سيرى صورا من سماحة الإسلام ويسره، ففي الطهارة جاء التيسير والسماحة في المسح على الخفين وفي التيمم، وفي الصلاة يصليها المرء بحسب قدرته قائما أو قاعدا وفي أي مكان، وشرع فيها الجمع والقصر عند الحاجة كالسفر، وفي الصوم كالتيسير على المريض والمسافر، وكذا بقية أركان الإسلام، فالزكاة على من ملك نصابا وحال عليه الحول، والحج مرة في العمر لمن استطاع.
أما في مجال المعاملات والآداب فتتجلى صور عظيمة من السماحة، فلقد بنى الإسلام شريعة التسامح في علاقاته على أساس متين فلم يضق ذرعا بالأديان السابقة، وشرع للمسلم أن يكون حسن المعاملة، رقيق الجانب، لين القول مع المسلمين وغير المسلمين، فيحسن جوارهم، ويقبل ضيافتهم، ويصاهرهم... ويهدى إليهم ويقبل هديتهم، ويواسيهم عند المصيبة، ويعود مريضهم ويهنئهم بما تشرع فيه التهنئة، ويناديهم بأسمائهم المحببة إليهم تأليفا لهم.
ومن سماحة الإسلام في المعاملة أن شرع العدل مع المخالف وجعل ذلك دليلا على التقوى التي رتب عليها أعظم الجزاء قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
ومن يتأمل تاريخ الإسلام وأحكامه يجد أنه لا يمكن أن يقوم مجتمع تحترم فيه الحقوق والواجبات كما في دولة الإسلام، وفي أوج عزة دولة الإسلام وقوتها كان يوجد من غير المسلمين العلماء والأدباء والأطباء والنابغون في مختلف الفنون والأعمال، وهل يمكن أن يكون لهؤلاء ظهور ونبوغ في أعمالهم لولا سماحة الإسلام ونبذه للتعصب الديني؟!
إن المعاهَد في بلد الإسلام لا يعيش على هامش المجتمع بل يشارك ويخالط أفراد المجتمع. ولقد أطلق الإسلام على غير المسلمين (أهل الذمة) وعاملهم بها وهي تعني: العهد والأمان والكفالة والضمان، وهو عهد منسوب إلى الله عز وجل وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن قوة هذا الدين وسلامة قواعده وتنوع أساليبه أوجدت مجالا خصبا للحوار والحرية والإبداع في المجتمع المسلم. وإن من يأخذون ببعض النصوص من الكتاب أو السنة ويريدون تطبيقها في معاملة غير المسلمين يخطئون في فهم منهج الإسلام وطبيعته، فالواجب أن تؤخذ نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة كاملة وتقرر معاملة المسلم مع غيره في ضوئها وعلى هديها. وفي القرآن العظيم آيات لا تحصى في الأمر بالبر والصلة والإحسان والعدل والقسط والوفاء بالعهد، والنصوص في ذلك مطلقة تستوعب كل أحد، وتبين عظيم سماحة الإسلام وتفرده عن غيره من الشرائع في معاملة المخالفين. والله الموفق.
*أستاذ مشارك بكلية الدعوة والإعلام