وسطية الاسلام
من الواضح أن الاسلام الدين العالمي و الشامل و النهائي خلاصا للبشرية من كافة أمراضها المستعصية على الحل لو علم الناس ما فيه من بلسم لاستساغوه بكل حرية و دون اكراه و ذلك أنه الدين الذي يسمح بأكبر هامش من الحرية لكل الناس و ذلك أنه جاء علاجا لكل هموم الانسان بقطع النظر عن الجنس و اللون و الأصل الاجتماعي فكلها عوامل تفرقة بين البشرية الغى الاسلام اعتبا رها وأكد على معيار جديد في التفاضل بين الناس وهو التقوى و العمل الصالح وبذلك يدشن الاسلام عهدا جديدا من الوسطية و الاعتدال نابذا بذلك كل أشكال التطرف معتبرا اياها مرفوضة وغير مقبولة في كل شبىء من العقيدة الى العبادات الى المعاملات الى الأخلاق بحيث يصبح الاعتدال موقفا ثابتا غير قابل للتغيير او التجزئة بحيث هو علامة مميزة لهذا الدين العظيم الذي جاء به أفضل مخلوق على هذه البسيطة و هو محمد صلى الله عليه و سلم فما هي عناصر هذه الوسطية ؟
في العقيدة
لا بد أن ننطلق من العقيدة وهي في الدين الاسلامي بسيطة و واضحة كل الوضوح بعيدة كل البعد عن تعقيدات الفلاسفة وعلماء الكلام والفقهاء فهي لا تعدو كونها الاعتقاد بوجود الاه واحد متفرد بالخلق وله القدرة التامة على فعل أي شيىء مهما كان اضافة الى بقية عناصر العقيدة الأخرى كالايمان باليوم الآخر و الملائكة والمرسلين جميعا دون تفرقة بينهم بحيث يكون هناك فهم واضح لحقيقة العقيدة وعناصرها مباشرة لعموم الناس دون الحاجة لوسائط من رجال الدين الذين لعبوا دورا مشبوها في الديانات الأخرى بما أخفوه عن الناس من المعطيات حفاظا على مكاسبهم المادية لذا فان الاسلام يعلن صراحة أن هذا الدين متاح للجميع دون تفرقة و هنا تظهر وسطيته و اعتداله في مسالة العقيدة بحيث يمكن لكل انسان أن يدرك مباشرة من خلال القرآن وصحيح السنة و بدون واسطة ان كان ذلك ممكنا له أن يدرك التوحيد و بقية عناصر التوحيد و يفهمها مباشرة دون تأثير عليه من أحد كما أنه حاسم في رفض التقليد الأعمى للآباء و الأجداد فيما يتعلق بالعقيدة بل يصل الى أكثر من ذلك حيث يرفض هذا التقليد و ينفر منه بل يطالب أتباعه باعمال عقولهم توصلا الى المعتقد السليم الذي يمكن ادراكه من خلال تأمل الكون و النفس .
كما أكد على حرية التدين بشكل لا لبس فيه من خلال قوله تعالى ( لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) 256 البقرة كما وردت آيات أخرى تدعم هذه الحرية وقد فهم المسلمون الأوائل هذا المعنى العميق للحرية الدينية من خلال تناولهم لمسألة العقيدة حيث انهم لم يصلوا الى موقف موحد بهذا الخصوص بل افترقوا الى عدة فرق كلامية كل منها يدعي أنه الفرقة التي وصلت الى الحقيقة و يذلك نصل الى قناعة هامة في فهم الدين الاسلامي وهي أنه أول من شرع للتعددية الفكرية وفي مجال هام و هو العقيدة بالرغم مما قدمه من توضيحات بهذا الخصوص واصلاح للخلل الذي وقعتفيه الديانات الأخرى بسبب الممارسات الخاطئة لرجال الدين فيها و الذين كانت لهم الكلمة العليا فيها في حين لا وجود في الاسلام لمؤسسة رجال الدين أو ما يسمى بالاكليروس وذلك أن الاسلام لا يجعل واسطة بينه وبين الناس ومن ذلك ان الله يعلن في القرآن أنه قريب من كل المؤمنين و يستجيب لدعائهم مباشرة ( واذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداعي اذا دعاني ) البقرة بحيث تظهر في هذه الآية عدة عناصر أهمها أن الله قد ذكر العباد قبل ذاته العلية و هذا منتهى التكريم لعباده المؤمنين كما نسبهم لنفسه كما أنه تولى الاجابة بنفسه مباشرة ولم يقل مثلا قل لهم كما أكد القرب منهم ووعد اجابة الدعاء فلسنا بحاجة الى من يقربنا من الله بل نمارس هذه القربى مباشرة ودون وساطة وبذلك يرفض الاسلام قطعيا تلك المظاهر السلبية من التوجه للأولياء و الصالحين لأنها تعبير بشكل أو بآخر عن مظهر من مظاهر الشرك التي جاء الاسلام أساسا لمحاربتها
أما بخصوص مسالة الردة وما ورد في المنظومة الفقهية التقليدية من ضرورة قتل المرتد وقد استندوا في ذلك الى ما قام به الخليفة الراشدي أبو بكر الصديق عندما قاتل المرتدين و مانعي الزكاة و قد ثار وقتها جدل محتدم بين المسلمين هل يكون القتال للجميع أم للخارجين عن الدين فقط و الذي حصل وقتها وبعد وفاة الرسول هو تمرد سياسي على سلطة الدولة المركزية في المدينة المنورة وعندما حصل الخلاف بين المسلمين حسمه أبو بكر الصديق بقوله ( والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه وان أبى الناس لقاتلتهم لوحدي )فعند ذلك استجاب كل المترددين من الصحابة لموقفه فلا يمكن بعد الآن القول بأن الردة تواجه بالقتل بل المسألة سياسية بالدرجة الأولى و الا بماذا نفسر عزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد بمجرد توليه الخلافة و ذلك أنه من بين الأسباب لهذا العزل خلاف بينهما في وجهات النظر من حروب الردة و مانعي الزكاة لأن عمر يعتبر أن خالدا قاتل أناسا مسلمين و سبى نساءهم دون وجه حق في حين أن خالدا و من معه يون موقفا آخر و لذلك اذا اختلفت الآراء فتكون المسالة المختلف فيها ليست دينا وانما هي أساسا موقف سياسي لا غير .
كما شدد الاسلام على حرية الدين والمعتقد باعتبارها ارقى صور الحرية الفكرية وأشدها حساسية فقد ورد بالنص القرآني الكريم "ولو شاء ربك لآمن من في الارض جميعا, افأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين", وبالحديث النبوي "احب الدين الى الله الحنفية السمحة" للدلالة على سماحة الاسلام. وقد نزلت الآية الكريمة "وما ارسلناك الا رحمة للعالمين" لتؤكد ان رحمة النبي محمد شملت الناس اجمعين, فقد دعا الرسول بـ"اللهم اهد دوسا وائت بهم" حين جاءه خبر كفرهم ولم يدعُ عليهم كما توقع المسلمون, ومثلها ايضا قال صلى الله عليه وسلم "اللهم اهد ثقيفا". بل انه كان يقول لمن يعطس عنده من اليهود "يهديكم الله ويصلح بالكم" وعندما وقف الرسول لجنازة يهودي مرت بمجلسه قالوا: يارسول الله انها جنازة يهودي فقال عليه السلام "أليست نفسا منفوسة".
ولهذا فالعلاقة مع غير المسلم في الاسلام يؤطرها التكريم الالهي للانسان والكرامة الانسانية, فترجمها فعلا من خلال الاحترام المتبادل والتأدب في المعاملة والمخاطبة والمساواة في القيمة الانسانية, فقد روي عن الرسول قوله "من ظلم معاهدا او كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه"، فيما امر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإدخال اليهودي العاجز عن الكسب في الضمان الاجتماعي وصرف له ما يكفيه من بيت المال.
وقد فتحت البلاد دون ان تهدم كنيسة او معبد, بل ان اهل الشام والحيرة سألوا ابا عبيدة ان يجعل لهم يوما في السنة هو يوم عيدهم يخرجون فيه بصلبانهم, فأجابهم الى ذلك. فلما رأى اهل الذمة تسامح الاسلام صاروا عونا للمسلمين على اعدائهم.
لم يكن التسامح الديني في الدولة الاسلامية شكليا, بل انه اثمر عن تقارب لصيق بين غير المسلمين والخلفاء والأمراء والولاة وصل حد الاغداق عليهم نظير جهودهم العلمية, الشراكة المعرفية الخروج بفهم عام وكان ان ظهرت المكتبة بمفهومها العام واصبحت مجامع وحلقات للعلم نتيجة هذه الشراكة المعرفية , وبرزت حركة النقل والترجمة.
وقد تلقى خالد بن يزيد بن معاوية علوم الاوائل على معلمه مار يوحنا الدمشقي او (مريانوس) كما كان يسمى. وقد ترجم مريانوس لخالد بن يزيد عن اليونانية, وترجم له ايضا راهب يقال له اصطفن الحصري كتبا اخرى.
وكان للمؤتمن بن المقتدر علاقات وصلات ثقافية وعلمية ببعض العلماء اليهود من معاصريه رغم التباعد في الاعتقاد, وقد كان ذلك سببا دفع العلامة اليهودي موسى بن عبدالله بن ميمون القرطبي لدراسة كتاب "الاستكمال" للمؤتمن فوضع له شرحا وافيا لمسائله وقال فيه "انه جدير بأن يدرس بنفس العناية التي تدرس بها كتابات اقليدس..".
وحافظت العلاقة الثقافية والتبادل العلمي بين الخلفاء المسلمين وغير المسلمين على وتيرتها بعد المؤتمن, فقام الطبيب اليهودي يونس بن اسحق بن بكلارش بتصنيف كتاب "المستعيني" في الادوية المفردة للخليفة المستعين بن المؤتمن. وقد حظي هذا الكتاب لأهميته بدراسة العالم الفرنسي رينو.
ويقول محمد بن اسحق النديم في كتابه "الفهرست": "انه كان بين الخليفة المأمون وملك الروم مراسلات بالشأن الثقافي والعلمي, فقد كتب المأمون الى ملك الروم يطلب اليه انقاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزنة والمدخرة ببلاده فأجابه الى ذلك".
كما استقدم من قبلُ ابو جعفر المنصور جورجيوس بن بختيشوع من مدرسة جند يسابور مع تلميذيه ابراهيم وعيسى ابني شهلا لدعم حركة التبادل الثقافي والعلمي والترجمة, وكلف يوحنا بن البطريق بنقل بعض الكتب القديمة, وترجم له منكه الهندي كتاب شاناق في السموم وعرب كتبا في الطب والفلك.
فقد كتب نصارى الشام الى ابي عبيدة بن الجراح يقولون "يا معشر المسلمين انتم احب الينا من الروم وان كانوا ديننا, فانتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا وأحسن ولاية علينا".
وقد قال في ذلك ايضا المستشرق الانجليزي توماس ارنولد "ان المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على تسامح هذا الدين". وقالت المستشرقة الالمانية زيغريد هونكة "ان العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الاسلام, فالنصارى واليهود والزرادشتية الذين لاقوا قبل الاسلام ابشع امثلة التعصب الديني وأفظعها سمح لهم جميعا دون اي عائق بممارسة شعائر دينهم, وترك لهم المسلمون اديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون ان يمسوهم بأي اذى.. او ليس هذا منتهى التسامح؟ واين روى التاريخ مثل هذا التسامح؟".
والى ذلك يقول ايضا آندرو باترسون,احد الكتاب الاميركيين المعاصرين "ان العنف باسم الاسلام ليس من الاسلام في شيء بل انه نقيض لهذا الدين الذي يعني السلام لا العنف".
ان عودة المسلمين الى تعاليم دينهم واصوله ينبغي ان لا تكون مدعاة لمخاوف غير المسلمين, لان الدين الاسلامي هو الحاضنة الطبيعية لعلاقة ايجابية وسوية بين الجميع على اختلاف اديانهم.
وهكذا كان الاسلام دينا للعدل و الحرية و التسامح العقائدي لا يمكن أن نجد مثيلا له في الديانات و المذاهب الأخرى التي ضاقت حتى بأتباعها فكان في ظلها الفرقة و التناحر في حين أن السلام و الأمن هو السائد في ظل سيادة الاسلام و سيطرته الحضارية و السياسية على العالم
: