تاريخ التسجيل : 31/12/1969
| موضوع: إنها جمهورية مصر "الجديدة" الإثنين مارس 28, 2011 4:02 am | |
| لم يكن عم محمد (60 عاما) ذلك الرجل الأبكم، الذى أظهرته عدسات التليفزيون، وهو يشهر بطاقته الشخصية، سعيداً بإدلائه بصوته فى استفتاء السبت العظيم، سوى ضوء أخضر استعاد كرامته التى زيفتها "شلة الأنس" غير المباركة طيلة أكثر من ثلاثين عاماً.
عمّ محمد، الذى "نطق" بالكاد، وهو يتمتم بحروف متقطعة، مستجمعاً كلمة "مصر" التى كررها أكثر من مرّة، والفرحة تحتل وجهه، أعطى المشهد الانتخابى بريقاً، طالما حاول بلطجية نظام مبارك السابق، ورجال شرطته، وأمناء حزبه، اختطافه، ومنحوا أنفسهم ـ بلا أى حق ـ سلطة تزويره، ورشقه بالحجارة وبالسنج والمطاوي، ثم لا يستحى رجال من أركانه، من الخروج علينا، مهنئين بالحرية والديموقراطية.
حتى ابنى الطفل أحمد (12 عاماً) والذى أصرّ على الذهاب لمركز الاقتراع، للإدلاء بصوته، ورغم أن القانون لا يسمح، لأنه صغير السن، ولا يحمل بطاقة شخصية، إلا أنه أراد المشاركة فى العرس، وعندما منعه رئيس اللجنة، كاد يبكي، وهو يقول: "ليه تحرمونى.. مش أنا مصرى" وعبثاً تذهب محاولات إفهامه، أنه عندما يكبر يستطيع ممارسة دوره، ليتوصل إلى حل وسط مع قاضى اللجنة الرائع جداً، يستطيع أن يتفاخر من خلاله وسط أقرانه، وكان الحل، أن يغمس إصبعه فى الحبر الفوسفوري، محققاً بعض حلمه.!
ما بين عم محمد، وما بين الطفل أحمد، بدا المشهد الانتخابى المصرى، فى أروع تجلّياته، ليكون أبلغ رد، على رئيس وزراءٍ سابق، مثل السيد "رابسو" الذى قال ذات مرّة، إننا كشعب مصرى، غير مؤهلين للديموقراطية.. وغيره كثيرون، استهانوا بهذا الشعب، ومارسوا عليه كل فنون الإقصاء والاستخفاف، ولأنه لا أحد يحاسبهم أو يردعهم، فقد تمادوا، تمادوا كثيراً، وكأنه لا راد لقضائهم، ولا رادع لمخططاتهم.
لم يحاسبهم رئيس الجمهورية على خطيئتهم فى حق شعب يفترض أنه يحكمه، ولم يعقب عليهم أى من كتبة النظام الذين فقط سبّحوا للحزب الواحد، وللفرعون الأخير، وصفقوا لـ"الننوس" وهللوا لمشاهد الاغتصاب العلنية فى حق وطن، وفى حق شعب.
الطوابير الطويلة التى وقفت أمام مراكز الاقتراع، يوم السبت الماضي، رسمت صورة مصر التى نريدها، ونحبّها بكل أحلامها، وحنّائها، بكل ألوان طيفها، وأصباغ شعرها، لا تلك الصورة القاتمة التى أرادتها عصابة "على بابا" وسَعَتْ لتدجينها لتكون فى حظيرة الرئيس، وحرم الرئيس، وابن الرئيس، ومن حول الرئيس.. حتى ظنوا أنها باتت فى أيديهم ولن تفلت أبداً.
أحدهم سألنى على الفيس بوك: "هل تؤيد حق مبارك وأسرته فى التصويت بالاستفتاء؟" ورغم أننى من أنصار قول التصويت بـ"لا" إلا أننى رحبت جداً بأن يخرج الرئيس السابق وزوجته، وابناه، لا ليصوتوا فقط، ولكن ليروا مصر أخرى، بعد أن تحررت من عهدهم، مصر التى اختصرتها العصابة فى مدرسة مصر الجديدة الثانوية للبنات، والتى كانت مقراً مضحكاً لديموقراطيتهم السخيفة، كما أرادتها نماذج شيطانية، للأسف لا تزال حرة وطليقة، حتى ولو لزمت بيوتها.
كنت أتمنى أن يرى مبارك، عم محمد، ويسمعه، حتى ولو لم يفهم منه شيئاً، فبطاقته المصرية، وحروفه المتآكلة، تجاوزت كل حصص التعبير، التى فرضتها طويلاً الصحف القومية، بأحبارها السوداء، وأخبارها السوداء، وضمائرها السوداء.
كنت أتمنى، أن يرى جمال مبارك، وشلة الخراب، الطفل أحمد، وهو يبكى لأنه يريد أن يكون مصريا، ويزهو حتى ببقعة الحبر الفسفورى على إصبعه، منتشلاً وطنيته، ومصريته، وضميره الذى سيبقى حياً له، ولكل أجياله المستقبلة. كنت أتمنى، أن يعرف أحمد عز، وزكريا عزمي، وفتحى سرور، وحبيب العادلي، أزهار مصر الجديدة، وهى تتفتّح على أرض مصر، كما تفتّحت من قبل ورود مصر، بدمائها وأرواحها، وكتبت باستشهادها فى ميدان التحرير، وفى كل الميادين المصرية، أروع قصص النضال السلمى الوطني، دون تزوير، أو تلطيخ ضمير. لا يهم من قال لا.. لا يهم من قال نعم.. المهم أن الملايين التى خرجت إلى صناديق الاقتراع، لم تكن تبحث عن رشوة، كما فعل سادة الحزب الوثني، فى كل تجاربهم المريرة.. لم يبحث هؤلاء، عمّا يلوث ضميرهم، بـ"فرخة" أو "كيلو لحمة".. كما كان يروج شياطين الحزب ومرشحوه، فى أبشع عملية إذلال لكرامة المواطن الفقير، التى اشتراها هؤلاء، بأموالهم!
لم يبحث هؤلاء الذين أدلوا بأصواتهم، إلا عن أنفسهم، وكينونتهم، وبلدهم، التى تاجرت بها أسوأ حثالة على مر التاريخ.
خرج المصريون، لأنهم ولأول مرة، وجدوا أنفسهم، بالضبط، كما قالت تلك الفتاة المصرية، نوّارة نجم، على الهواء يوم السقوط العظيم:"خلاص.. ما بقاش فى خوف تانى".. تلك إذاً.. هى جمهورية مصر.. مصر الجديدة.
** كاتب صحفى مصرى والمشرف على القسم السياسى بجريدة اليوم السعودية
| |
|